لماذا أكتب
- أحمد القاضي
- 11 أغسطس 2020
- 3 دقائق قراءة

إن ما ينشده الكاتب هو أن تروج فكرته، وأن تصل إلى أعماق عقول جمهوره، وتتشربها صدورهم عن ثقة فيما يقدمه إليهم، ويقين فيما يقصده من وراءه، ولا يشترط الإيمان بفكره، ولا يتوجب الاقتناع بمعروضه، وإنما الأمر يتمحور في طريق الطرح والرد على المطروح، او نقول المساجلة الفكرية الحجاجية.
إن الذي يؤدي بالكاتب لأن يكتب هو ذاك؛ أنَّ العقول دون من ينيرها معتمة غافلة، وأنَّ القلم صاحب رسالة، فإن كان المُباعُ في أسواق الكلام زورًا؛ انبغى على الكاتب ذي الرؤية وصاحب القضية والمبدأ أن يُبين بهتان الرائجِ، ويفضح خفيَّ الإفك، ويظهر الحقيقة، ويقود الناس إليها بكلمته وخطابه، وأن يحمي الناس من مضار التبعية الباطلة، ثم لا يألو ولا يتراخى فيه، وسوف يقابل من يتهكم عليه، ومن يقلل من كلمته، أو من يضيق عليه مهنته التي أسميها «امتهان الحق»، ومن يحاربه بالكلمة، فبالسطوة، فبالسلطة، وعليه ألا تزول قدمه دون رسالته؛ فالساكت راض بالهوان والانحسار في رِمَّةِ المعزولين، وحثالة التابعين، وثلة الخانعين، الذين هم موتى بقيد الحياة، اجساد بلا أرواح، يتنفسون بلا رسالة، ويعيشون بلا غاية ولا منتهى.
والكلمة سلاح، والقلم رباح، أما سمعت رسول الله يقول للشعراء في شعرهم: والذي نفسي بيده إن كلامكم أشد عليهم من السهام، وقوله لكعب إن كل إنسان يحارب بنفسه وبماله وبلسانه، وإن الكاتب الذي هو بلا مبدأ راسخ يناضل دونه؛ هو كاتب زائف، وإنسان خائر، وعقل خاوٍ، وقلم تابع، تجرفه الأمواج، وتحكمه الأهواء والمصالح، وتسوسه القوة، فليس له في قوله مصدقٌ إلا إمعة أو رويبضة، ولا مصداق لما يدعو إليه سوى هوًى متبدل، أو مصلحة متغيرة، أو دافع يدفع لا عين يقين وإيمان.
لذلك ما ننظره منك أيها القارئ هو أن تدعم هذه الرسالة، وتشد على عضد هذه الأقلام، وتقرأ قراءة واعية، وتجادل وتجيب، ولا تمر مرور الكرام العابثين بالكلِم أو غير الحافلين إياه، حينما تترك تعليقا لا بد أن يكون عصارتك كما أني قدمت لك من الأفكار والحروف ما هو عصارة عقلي وجهدي، وأن يكون نافعًا خلاقًا، كما قدمت لك ما أذهب إليه من مبادئَ هي النفعُ عندي، وفيها الإفادة، ثم أن يكون عن فهم وتدبر وحسن نية، كما قد حددتُ أنا العلاقة بين الكاتب وقارئه بالثقة فيما يعرض وفيما يقصده بعرضه، وقد تحدد ذاك بالقياس والإسقاط؛ فتقيس ذلك على مبادئ الكاتب في كتاباته المختلفة وهل يتلون كالحرباء أو هو صاحب غاية ورسالة لا يُتلاعب فيها، ثم أن تُسقِطه على حياته فترى هل يقدم إليك ما يلتزم به، أم هو حديث «فض مجالس» لغاية أو لأخرى، فقد يكتب الكاتب لغيره، ويُعَبِّدُ قلمه فِكرَ سواه، بل ومبدأه مذهبَ غيرِه، وقد علمنا الله: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون».
وبعد ذلك، فلا أنظر منك تصفيقة، ولا (أحسنت)، ولا (شكرا)، فذاك سم قاتل فيه استهزاء واستهتار واستقلال؛ لأني لا أطلب لاسمى شهرة، بل لما أذهبه وما أرتئيه، وشهرة ذلك تكون بالأصداء، أي إنك حينما تحدث نفسك في صحراء شاسعة أو مكانٍ مقفر خاوٍ؛ فإنك تسمع لصوتك صداه، وحينما تمشي في الطرقات فإنك ترى لرسمك ظلا؛ فتعلم يقينًا أنك موجود، وتطمئن إلى أنك تشغل بكيانك مساحة فوق هذا الكوكب وتحدِث تأثيرا، أما الإماءات الصامتة فتكاد تشعرك أنك لا قيمة لك، ولا صدًى لحديثك، ولا مردود لفكرك، ولا مكان لمذهبك.
ولقد تغمرني حينما أكتب مشاعرُ صادقة، أكتب لأفرغ طاقات مكبوتة لا أجد حولي في الواقع المحيط من يسمعها، أو أفكار كامنة لا ألتقي من يؤمن بها، أو يتبناها، وقد أكتب لغرض أسمى، وهو المذكور آنفا؛ أي من أجل رسالة أشفق بها على محتاجٍ إليها، أو رؤية أرى أن تصل إلى أناس هم إليها أحوج من غيرهم، وقد أنثر على الورق مبادئَ في وجه باطل، وأتشدد لقيل حقٍّ ينفع من ضرر محدق لا ريب واقع؛ إي، فالكاتب مفكر، والمفكر له نظرة حدْسية تنبؤية، وله نظرة استباقية، وقد أكتب لأشاركك دواخلي ومضموني، وآخذ منك مشاطرة أو نصيحة، وتأخذ مني خبرة أو تسلية وعزاء؛ فلا يجدر بك في أي من تلك الأغراض أن تتقلل من تقديرها والحفاية بربِّها الذي اختارك ليُكْرِمَك بالاختصاص دون الأكثرية التي هي بأذن لا تسمع وقلب لا يفقه وعين فقد بصرها نوره فلا يكاد يرى إلى عمى.
Σχόλια