استغراب: النهضة الأوروبية
- أحمد القاضي
- 12 أغسطس 2020
- 9 دقائق قراءة

لم يطرق قط ذهني مفهوم علم الاستغراب –الذي تستغربه أنت الآن قارئَهُ– قبلما يحدثنا به دكتور ماجد الصعيدي في إحدى محاضراته عن الاستشراق؛ معرفًا إياه بالتوجه نحو دراسة الغرب لغرض أو لآخر، وإني لأحب هذا الرجل ولست أكيدًا أنه يعرفني، لكني شرُفتُ أن أفتتح مقالتي بذكره، وأنثرَ بعضًا من علومه في أسطري القلائل.
مدخل
عصر النهضة والإحياء الذهبي— صحيح أنه بذر في تربة الثقافة الإيطالية أولى بذراته، لكن التطور الحقيقي، والإنجاز المنهجي لم يكونا إلا على أيدي فلاسفة فرنسا وألمانيا وإنجلترا..
تعد حركةُ النهضةِ بادئةً في إيطاليا أولًا مُذ مشارف القرن الرابع عشر الميلادي، حينما نما توجُّهُ دانتي أليجييري، وفرانشيسكو بيتراركا، وجوڤانّي بوكّاتشو؛ الداعي إلى توحيد اللغة الأدبية، والأخذ بالكلاسيكيات القديمة استلهامًا، ثم إعادة صَوغعها بما يتناسب وأسلوبَ العصر ومحتواه، وقد كانت قضية اللغة تلك معرقِلةً لانتشار تلك الآداب والفلسفات المحدثة، حتى وقع الاختيار على العامية الفلورنسية لغةً للأدب، ليولد معها أخيرًا الأدب الإيطالي الحقيقي، جاعلًا من إقليم توسكانا -صاحب الباع في الفن والحضارة ما قبل التاريخ- مُذَّاكَ عاصمة للآداب والثقافة الإيطالية.
كانت تلك الحركة أولَ ما دعىٰ إلى البحث، واكتشافِ العلوم الجديدة، والتفكك شيئًا فشيئًا من قيود الكنيسة والدين، موليةً احتفاءً كبيرًا بالحياة الدنيوية؛ لأنها عَيشُ الإنسان ومهدُه الأول، فتشعبتْ منها في خمسميات الألفية الثانية الحركةُ الإنسانيةُ، التي جعلت الإنسانَ محورَ الكون، ومركزَ الأمور، كفضلِ الشمسِ على سائرِ الكواكب، ودعت الفرد إلى الثقة في عقله، وأن يشرعَ يفكرُ باستقلالٍ غَيرِ نابذٍ للدين، ولا رافضٍ لذات الإله أو متآلٍ عليه؛ وإنما مستغلًا ثقةَ الرب فيه، وهباتِه له، وخلافتَه لأرضه: لم تكن تلك الحركة تهاجم الكنيسة، ولم تصطدم وتأويلاتها للكتاب المقدس –وإن دعا من رجالها بعضٌ إلى التجديد– لا سيما أن السوادَ الأعظمَ من أدبائها ومفكريها كانوا من رجال الكنيسة، وأن مثقفي العصر إذَّاك هم كتبةٌ لدى الكنيسة والقصر..
ولقد ترى دعوتها إلى التوجه نحو العلوم والاستكشاف مسعى منها لتقريب الإنسان إلى الله، يضعُهُ على الصراط إلى معرفته، بيد أن التطور الحقيقي لمبادئ تلك النهضة لم يشهد أَوْجَهُ إلا على أيدي الفلاسفة الفرنسيين بعد قرن من ذلك، وعندما غزا تشارلز الثامن إيطاليا -١٤٩٤- ناقلا ثقافتها إلى بلاده فرنسا، ليأخذ الإنجليزُ بعدئذٍ اللجامَ مؤسسين لهذه النهضة الإصلاحية بالإصلاح العملي والتنفيذ الواقعي منذ شروق شمس أمير النهضة والإحياء: الملك هنري الثامن– وليا للعهد مُذُ ١٥٠٢، ثم ملكا مذ ١٥٠٩.
وتظل هذه النهضة الإيطالية شحيحة في مادتها الأدبية، مستثمرةً غناها في الفنون التي تمثلها رسومات داڤنشي، حتى توشك ترى النورَ أولى فلاسف النهضة الأوروبية الوليدة على أيدي فلاسفة إنجلترا وفرنسا وألمانيا، وقد كان أول ما مهد لتلك النهضة الفلسفية والفكرية والعلمية الإصلاحُ الديني، أو كما أحب أصفَه بالإصلاح البروتستانتي اللوثري، الذي طهر عقل الإنسان من الروث، والأقذاء التي راكتمها السنون المعتمة –من سيطرة الكنيسة ورجالها ومنهاجها على الحياة المجتمعية والخاصة للفرد– في طيات جدرانه الواهية، وأحلَّ محلها نورَ المعرفة ونسائمَ الدعوة إليها.
بداية النهضة والإصلاح الديني في إنجلترا
كان من إصلاحات لوثر ما تعلق بالعقيدة، ومنها ما تعلق بمقابلة ظلمات الفكر الكاثوليكي المناهض للعلوم والتجديد، والمتشدد في إحكام سيطرته على المجتمع والقصر بأي ثمن، وباسم الرب والدين.
وجد لوثر -كما علم النهضويون- أن العلم والاكتشاف يقود إلى الله، لا يبعد عنه، وأن البحث والتفكر هما الهدف الأساسي من رسالة الدين، وأنهما الهدف أيضًا من خلافة الإنسان في الأرض، وتمييزه بعقله، الذي يسنَحُ له بتسَيُّد المخلوقات جميعًا.
ومن ثَمَّ كان أخذُ هنري الثامن ملك إنجلترا بهذا التجديد الديني هو منارة إنجلترا، وبوابتها الكبرى نحو التطور العلمي والثقافي، والنهضة الحضارية في كافة المجالات المجتمعية، في عصر قريب سابق لنهضة ممالك الكاثوليك والإقطاعات التابعة، وكان أن كان بوابتَها نحو سيادة أوروبا، ثم العالم بأسره في القرون الوالية لذلك.
ولم يكن هنري لينتويَ الإصلاح الديني إلا لما واجهه هو نفسه من التسلط الكنسي على سلطة القصر، ولأنه رغب الزواج من أخرى –بعد خلاف طال مع بابا الكنيسة الكاثوليكية حول طلاقه من قرينته البتراء التي لم تنجب له ولدًا إلا مات طيلة عقدين من زواجهما البِكر– ثم حتى لقد تزوج خمسًا في غضون عقد واحد بعد إبطال زواجه من كاثرين، وعلى الرغم من أننا نصور ذلك الشعلةَ التي أنارت له طريق التقرير؛ لكنْ يبقى الهدفُ الواعدُ من وراء ذلك هو الإصلاح الحقيقي، وتقويض صلاحيات الكنيسة، وتحجيم سلطة البابا التعسفية المطلقة، تماشيًا مع مبادئ الحركة الناهِضَة تلك الآوان.
أما هنري فقد كتب نسخة من الإنجيل واحدةً، أمر بطباعتها ودسها في جميع الأرجاء، لتصبح هي نسخة الكتاب المقدس الوحيدة المعمول بها في إنجلترا، وسمح للجميع بالمطالعة، والدراسة، والتحليل، والنقد، مُقِرَّا بذلك حرية التفكير دون قيود ولا تقويض؛ وفي سبيل التنوير، وسيادة الحقوقية الإنسانية في العلم والمعرفة دون حدود، سعيًا إلى الرجوع إلى أصل وصحيح الإيمان المسيحي.
توماس مور
كان مور من أوائل فلاسفة النهضة الإنجليزية في مطلع القرن السادس عشر، وآمن بمبادئ النهضة الإيطالية، مُشَكَّلَةً فيما هو صنوٌ لما ترجمهُ البارودي متأخِّرًا في المئة الثامنة من تلك الألفية القريبة بـ «الإحياء والبعث» أي إحياء الموروثات، وبعث التراث للإفادة منه، مع إعادة صياغته ليتناسب والعصر. وفي حالتهم تلك، انكبت عقولهم على كلاسيكيات العصر الإغريقي والإمبراطورية الرومانية؛ ولذلك قد يتمخض الزهو بـ مور عن فلسفته التي اصطلح على تسميتها بالـ يوتوبيا «U-Topia» أو التي تُتَرجَم بالعربية -لو ترجمتها أنا- بـ «أل..طوبىٰ»، ولقد يعرف المسلمون هذا المسمى القرآني الذي يشير إلى المكان الفاضل، الذي لا يجمع إلا الفضائل والخيور الكثيرات، ويحفو بالكمال، والمثالية التي لا توجد في الدنيا ولا تعرفها المجتمعات الإنسانية. ولم يك هذا النموذج من المثالية جديدًا في عالم الفلسفة؛ فقد عرفه الفارابي في مدينته الفاضلة عن جمهورية أفلاطون قبل مور بقرون، مما يجسد بالمثال الحي توجه تلك المدرسة الإحيائية إلى العمل على بعث الكلاسيكيات وإعادة تحريرها من جديد. ومع ذلك، لم تخلُ طرائقَ الفلسفة النهضوية في إنجلترا -مع ذلك- من الصدامات في بداية الأمر، وكذلك لم تسلم الخلفيات الثقافية، ولا فلاسفة العصر من بقايا محاولات القمع والديكتاتورية الفكرية؛ فقد طال مور شهرته بأن كان هو الفيلسوف الإنجليزي الذي تأبى على الإصلاحات الدينية الإنجيلية -لكونه من قديسي الكنيسة الكاثوليكية في الأصل- والذي أعلن تمرده على طلاق الملك هنري الثامن حليلتَه كاثرين؛ فكان ثمرةً لذلك أنْ أُخِذَت رأسُه في برج لندن عام ١٥٥٣م بتهمة الخيانة العظمى؛ لا سيما أنه كان آنذاك رجل دولة: فقد كان مستشار الملك، ومتحدثًا باسم مجلس العموم، ووزيرًا للعدل أيضا.
العصر
الذهبي: إليزابيث الأولى– ١٥٥٨م
دائما ما أقول أن سعادة الإنجليز، وتفوقهم الحضاري، وتوازنهم الاجتماعي؛ نابعٌ من استقرار الصراعات بين الدين والحياة، وتأصل الوفاق بين الكنيسة والقصر، وبين الدين من جهة، والعلم ومصالح الفرد والمجتمع من جهة أخرى.
فمع ازدياد الصراع مع الرموز الدينية في كل من ألمانيا أولًا، ثم فرنسا، وإيطاليا؛ لأسباب غيرِ نابعةٍ من تعارض الفُكْرِ الثقافي فحسب، بل لصراعاتٍ وحروب مذهبية لم تتملص منها دول الغرب الأوروبي حتى بزوغ شمس التنوير اللاحق بقرابة القرنين من الزمن— نشاهد جليًا على الصعيد الإنجليزي بانوراما مختلفةً إلى أبعد الحدود: لقد تصالح الناس مع الكنيسة، وتوافقت اتجاهاتهم جميعا، ولم تقابل مصالح الكنيسة القصرَ مصالحَه بعد الإصلاح الذي أُحدث، لا سيما أن البابا قد تقوضت سلطاته، وأن الملك بات هو رئيس كنيسة إنجلترا مُذئذ؛ فتسامحت الكنيسة الجديدة مع أصول البحث وقواعد التفكير، ولم ترفض العلم ولا التفلسف، وشهدت إنجلترا -تباعا- حقبة من أزهى عصور سَبْقها الحضاري: هي الحقبة الذهبية وأوْج النهضة الإنجليزية في عهد الملكة العذراء، التي خلفت أباها هنري الثامن في طريقه الإصلاحية.
أسست إليزابيث مذهبًا خاصًا ببلادها، نشرته في أرجائها قاطبةً؛ كان المذهبُ مِزَاجًا، بعدَ تعديلٍ على المذهب البروتستانتي الوليد، ليصبح الدين الرسمي في إنجلترا هو «الأنگليكانية»، وإن كانت حرية الإيمان والمذهب ظلت مكفولة باسم القانون، على أنها -مع ذلك- ليست تضمنُها سِياطُ المجتمع، ولأن الغريب دائما منبوذٌ لا ينتمي.
في هذه الفترة شجع القصر الثقافةَ والفنونَ والعلومَ المختلفةَ– كما حدث في حقبة العباسيين في التاريخ العربي المتقدم بقرونٍ سبعة– وشهدنا إذَّاك كتابات شكسبير، التي تخللتها الانعكاسات الفلسفية على المجتمع، والعلم نفسية على شخصية الفرد وعكوساته الداخلية، مثل هامليت، وماكبث، وريتشارد الثالث، والملك لير التي أضفى عليها طابع الإبداع الأدائي المسرحي الفنان القدير يحيى الفخراني، وكذلك أعمال التراجديان الأشهر في عصره كريستوفار مارلو الذي مات حديثا ولمَّا يُتِْمِمْ ثالثَ عقوده عمرًا.
فرانسيس بيكون
ونطالع كذلك من روائع هذا العصر فلسفةَ اللورد فرانسيس بيكون، الذي سبق جاليليو في الإيمان بمنهج الاستقراء القائم على التجريب المجرد، وآمن بالعلم والمعرفة كسبيل لسيادة العقل الإنساني على المخلوقات جميعًا، ذاهبًا إلى أن ذاك لا يقود إلا إلى مزيد من الإيمان، من خلال التعرف على ذات الله وقدرته الإلهية.
أما الوحي -عند بيكون- فصوبانيته يقين لا ريب؛ على أنه لا يتنزل بغير ما يُعَرِّفنا به على ذات الله، والقيم الروحية التي يدعونا الرب إليها، والحياة الغيبية التي تنظُرنا فيما بعد الموت، وهذي كلها أمور يساعد الإنسانَ بها اللهُ لإيجاد صراطه والتعرف عليه؛ أما التفكير المنطقي والسعي إلى المعرفة فهو الطريق الحقيقية إلى توطيد تلك المعرفة بالله، واليقين فيه، بمجهود يتوجب على الإنسان أن يقوم به؛ لأنه دوره الواعي في الحياة الذي خلق لأجله.
”يقول بيكون: «صحيحٌ أن القليل من الفلسفة تقنع عقل الإنسان بالإلحاد، ولكن التعمق في الفلسفة يجلب عقول البشر للدين».“
بيكون كان أنگليكانيًا ملتزما بأصول المسيحية وقواعدها، ولكنه رأى -كما ذهب رواد الإحياء والنهضة- أن التزمُّت للمبادئ، والتعصب للأصول، والخوف من المغامرة والمجازفة في رحلة قصيرة من الشك؛ كل ذلك لا يؤدي بالإنسان إلا إلى الهَوَيَان في هُوة الشك والزلزلة؛ في حين أن البداية بالشك في بعض الأمور، ومحاولة البحث والوصول إلى النتائج بمنطقية وعقلانية أكيدة؛ تؤدي به في نهاية المطاف إلى الاستقرار في طي اليقين، والسكينةِ إلى ما تثَبَّت من صحيحه الصادق بنفسه.
{كما دائمًا كنت أسمع صغيرًا أن الأعجمي الذي يُسلِمُ بعد بحث واقتناع، أشد ورعًا وإخلاصًا من الذين عُدُّوا مسلمين بالميلاد، ثم لم يفقهوا عن الإسلام إلا تقاليدَ أو بعضَ عادة. }
ومرة أخرى المبادئ شكلت عند السير بيكون –خريج كامبريدج العتيقة– حجرًا عثرة في طريق العلم والفلسفة؛ حيث لا يقود التعصب لها لشيء ما حشا الضبابية التي تعيق اكتشافَ الجديد، والتطورَ الفكري والثقافي للمرء؛ ولهذا كان أهمَ أسبابِ تدهور الفلسفة والتفكير المنطقي التمسكُ بالمنقولات والموروثات دون مراجعة ولا تدقيق -لا سيما الدينية- إذ إن الناس قد اعتقدت أن الدين لا يمكن أن يُتلاعبُ في نصوصه المنقولة، وأنها غير قابلة للنقد أو التفنيد، مما سنح لرموز الدين باستغلال سلطته، واسمِ الرب، ونبذِ كل ما أدنى من مخالفتهم من وسائل الفكر والثقافة، التي خُلق على أساسها الإنسانُ المميز على المخلوقات بعقله العامل.
وكذاك فإن بيكون في فلسفته عَلِمَ سِمَةً مهمة في علم الفلسفة، كانت قد أغفلته قرون الظلام المعادية للفكر والثقافة؛ ألا وهي أن قليلًا من الشك الذي يؤدي -بعد رحلة من البحث- إلى حقيقة، ثم إلى سكينة الإيمان؛ فهو مطلوب في جميع الفلسفات الاستقرائية، وأنه لهو الدافع الأصلي إلى البحث عن الحقيقة، وتحصيل المعارف؛ فقد نقول أن بيكون عارض فلسفات الأصول، واستقل عنها، وابتكر عليها، لكن شعلة فلسفته الأولى هي في واقع الأمر مُستأصَلَةٌ من فلسفتهم.
وأنا شخصيا أعتبره أبو الفلسفة الحديثة؛ إذ أسسها على قواعد العلم النافع في الواقع، والقابل للتجريب والتطبيق، ونفى عنها النظريةَ البحتةَ، والتعريفات الواهية، والألفاظ الأدبية المعقدة، التي لا تؤدي عدا إلى الغموض، فقد رأي العلمَ هو ذاك الشيء الذي يُحدث النفع، ويجلب التغيير على أرض الواقع، ويؤثر في حياة الفرد والمجتمع، وليس ما يُكتب في الكتب أو يُدَرَّس في الكتاتيب.. وهو بذلك يجعل من الفلسفة أداة علمية بعد أن كانت طريقة تفكير جدلية تسبح في الريب، والبحث اللانهائي عن أصول البدايات؛ مُقَسِّمًا العلومَ على أساس الإدراكات: الذاكرة: تاريخ، العقل: فلسفة، المخيلة: الأدب واللغة.
وعلى هذا الأساس يكون فرانسيس بيكون أول من مهَّدَ للعلوم والاكتشافات الحديثة، وإني لواجدُه أبًا لكل علم تجريبي ولدته الحضارة يوما؛ فقد عاصر القرن السادس عشر في إنجلترا -بفلسفة بيكون تلك- إصلاحًا فلسفيًا في أصول التفكير والمنطق، اعترض به على فلسفات القدامى التي اعتمدت على الاستقراء المجرد، والقياس الأرسطي؛ ليظل الاستقراء عند بيكون ملاحظةً للتجربة ذاتها، ثم لا يغني عنها، أو عن تكرارها مرارًا، ومراقبة نتائجها بدقة متناهية؛ ولذلك كان هو أول من دفع إلى اكتشاف علوم حقيقية تقوم على أسس التجربة الحسية، وملاحظة النتائج، ثم الاستنباط، وهي الأساسات التي لا يقوم علم -إلا عليها- من علوم الطبيعة.
وكان السير بيكون بذلك هو الملهمَ الأولَ لكل من خلفوه، ومِنَ التنويريين، ومَنْ ألهم جاليليو -الذي كان أحدث منه بأعوامٍ ثلاثة فقط- ومهَّد لنيوتن طريقه.
عودة النهضة الإيطالية بعد ركود
كانت إيطاليا على مدار ذينك القرنين من الزمن متخبطة في الحروب والاحتلالات، التي جربتها عليها القوى الأوروبية العظمى آنذاك، كما أبطأ ركب ثوراتها العلمية دائما قيود الكنيسة الكاثوليكية -التي تحكم المثقفين والأدباء- ورقابتها حتى على القصر نفسه؛ ومن ثم فإن ما سبق هذا القرن وسلف عليه دعوات ومحاولات لم تفعل إلا أن أدت متأخرًا إلى اكتشاف تلك العلوم ومجاراة نهضة العصر التي كانت منارتَها إيطاليا في البداية، وسبقتها فيها فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا.. بل أوروبا، حتى بولندا.
أما جاليليو جاليلي لم يكن فيلسوفا بل عالما ، ولا يقود إلى العلم ويفتح له الآفاق غير الفلسفة ومساعي الفلاسفة الذين لم يوجدوا قط في الغرب الأوروبي في نظري إلا في فرنسا وإنجلترا ثم ألمانيا.
طور جاليليو تلسكوب البولندي كوبر نيكوس ١٤٥م، وأعاد تثبيت نظريته حول حقيقة كروية الأرض، ودورانها دون الشمس، والأجرامِ السماوية المشابهة لها؛ جاعلا الشمس بذلك مركز الكون بعد أن عرف العالمون مركزَ الكونِ الإنسانَ وأرضَه التي عليها قبل ذلك.
لقد ارتأى في ذلك أن المُشْكِلَ القائم هو تفسير الكنيسة الخاطئ لنصوص الكتاب المقدس الذي لا يتعارض البتة -في حد ذاته- مع التفكر أو العلم أو العقل، وإنما هما منفصلان؛ وأن الرب أنزل الكتاب يهديَنا به إليه بتقويم طبائعنا، ووضعِ أسس أخلاقية وروحانية صيغت بلُغَة مرنة أقربَ إلى الأدبية، لا تتفق ولغة العلم الرياضية الجامدة التي تتعامل بالأرقام وتعتمد على النظريات الثابتة.
أما الإنجيل وتعاليمه فمن اختصاص الكنيسة وعالُمي اللاهوت، بينما لغة العلم فتختلف؛ إذ هي قائمة لا على استدلالات الإنجيل، بل الاستقراء والتجريب والدقة الرياضية التي لا تقبل التلاعب، وإلا فكيف يؤمن المرء بنص؟ هو يرى إثباتات كذبه بعينه، أو يكفر بحقيقة؟ هو يعلمها بأم رأسه؛ لأن نصًا لم يرد بها أو يتطرق إليها في الكتاب المقدس.
كمثل سائر رواد الحركة الإنسانية النهضوية– لم يرفض جاليليو الكنيسة، ولم يخالف قانون الإيمان؛ إلا أنه كان عتبةً أولى لتنطلق منها التنويرية المادية العلمانية الإلحادية، التي صدقت على إدعاء الكنيسة الصوبانية الدينية، والوساطة الإلهية؛ فرفضَتهم جميعًا، متوجهةً صَوْبَ الإنكار التام، والشك المفرط.
ورُغمَ الوفاق والائتلاف الذي عاشته إنجلترا في غضون ذاك العصر الذهبي بين الحياة والعلم والدين؛ لم تشهد الحركة التنويرية -مع ذلك- غيابا في إنجلترا الناهضة؛ لأسباب قد تبدو متباينةً عن أسباب التنويريين ذوي الخلفيات الكاثوليكية؛ حيث أن فلاسفة التنوير اللاحقون في إنجلترا رأوا أن الكنيسة التي فقدت سلطتها وتبدلت قيَمُها فجأة دون أن تخل بمسار الحياة والتقدم الحضاري –بل أثمر تغيُّرُها تحضرًا وازدهارا– يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عنها في الحياة والعيش دونها لنزيد من التقدم، وهو الذي أعدُّه بمفهوم اليوم نوعًا من انهيار الرموز، وقدان الثقة في الأصول والموروثات.
Comments