لأنك يا عزيزي.. إنسان!
- أحمد القاضي

- 17 أبريل 2021
- 4 دقيقة قراءة

أحايينَ- ليست بالقلائل- أخطئ أخطاءً عظائمَ لا تخطئها الأطفال، وجل الذي لا يسهو سبحانه، ولقد رأيتُ وقابلتُ أساتذةً جامعيينَ ومشايخَ أزاهرةً وعلماء يَكْبُونَ في عثراتٍ لا يُظَنُّ أن تكونَ مع علمهم ومنازلهم.
أخطاءُ الكبار عزاءُ الصغار
وقد أخطأ النبيون حتى محمدٌ- صلى الله عليه وسلم- إذ قال له ربه: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثْخِنَ في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) وقال له: (ما كان لنبي أن يَغُلَّ) وقال له: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزَّكى...) وتحضرني حكاية الكسائي مع الخليفة الرشيد قرأتها في «سِيَرِ أعلام النبلاء» للإمام الذهبي، يقول:
[قال الكسائي رحمه الله: صليت بهارون الرشيد، فأعجبتني قراءتي، فغلطت في آية ما أخطأ فيها صبي قط: أردت أن أقول: (لعلهم يرجعون) فقلت: (لعلهم يرجعين) قال : فوالله ما اجترأ هارونُ أن يقول لي أخطأتَ، ولكنه لما سلّمت قال لي: يا كسائي، أي لغة هذه؟ قلت: يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواد، فقال: أمَّا هذه فنعم!]
فيُعَلِّقُ الإمامُ الذهبي على تلك الواقعة يقول: (من وعى عقله هذا الكلام علم أن العالم مهما علا كعبه، وبرز في العلم، إلا أنه لا يسلم من أخطاء و زلات، لا تقدح في علمه و لا تحط من قدره، و لا تنقص منزلته).
فضيلة الاعتراف بالخطأ ودفع الكِبر
وقد يغلبُ العُجْبُ فيُعْمي، وهذا حادثٌ مع الأغلب منا حينما نُصدَمُ من النقد، أو نتكابر على الناقد، ثم ترى أنك حُقَّ لك أن تَخطَأ، وتفخر بأنك أخطأت؛ لأنك إنسانٌ، ولقد مازك الله بآدميتك على نقصها واكتمالها.
إن مَن لا يخطئ لا يتعلم، ومن يقلْ «أنا» يتَّضِع، وتعلُّمُكَ لا يعني عِلمَكَ، وعلمُك لا يعني كمالَك، ونبوغك لا يعني قمةَ ازدهارك؛ ومِن ثَم نفرُقُ بين الثقة والسلام الداخلي من جانبٍ، والغرور بالذات من جانب آخر: هذا عمر بن عبد العزيز يقول له خالدٍ بن صفوان «يا أمير المؤمنين لا يغلبنَّ جهلُ غيرك بك علمَك بنفسك» فلا يغلبنك جهلهم بقدرك فتُثَبَّطَ، ولا يغلبنك جهلهم بنقصك مادحين ومُثنينَ فتنتخيَ وتتعاظم، بل تعرَّفْ نفسَكَ كبائرها وزلَّاتها، وإنا- معشرَ الشباب- لنحسِب في كل طَور ومرحلةٍ أنما ذاك هو الأكمل، وأنْ ليس بعده ما يُبْلَغ، وإنَّه لزورٌ وغرور، فإنك ما ازدت علمًا إلا من جهل، وما رُفِعتَ قدرًا إلا من ذِلَّة، وما اكتملتَ إلا عن نقص، ثُم يظنُّ الشيوخُ أنهم بلغوا غاية ما يُبْلَغ، وهذا من تلابيب الجهل؛ فذاك زكريا ابن مئة أو يزيد يحاجج ربه في قدرته- وهو النبي الولي- فيقول: «ربِّ أنى يكون لي غلامٌ وكانت امرأتي عاقرًا وقد بلغتُ من الكِبَرِ عِتِيًّا!» وذلك عمر بن الخطاب تهزمه امرأة حينما يعتلي المنبر فيقول: «أيها الناس ما إكثاركم في صداق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصَّدُقات فيما بينهم أربع مائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها فلا أعرفنَّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربع مئة درهم» فتستوقفه امرإة وتقول: «يا أمير المؤمنين يعطينا الله وتحرمنا، أما قرأت قول الله تعالى في قرآنه: (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) فيقول: «اللهمَّ غَفْرًا، كل النَّاس أفقه من عمر» ثم يرجع، فيركب المنبر، فيقول: «أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربع مائة درهم، فمن شاء أن يعطى من ماله ما أحب» والقنطار ألفٌ، أو هو المال الكثير، وهو من؟ أمير المؤمنين، وفقيه الدين، خليفة الرسول الأمين.
آفة المدح وكراهية النقد
أُدركُ أن الواحد منا يحب أن يُمدَح، ويكثر الركون إلى من يرى فضائلَه دون غضائضه، وأن يُوسَمَ بالكمال، وإن ظنَّ ذلك زورًا، هكذا جِبْلَةُ الإنسِيّ، قال تعالى: (لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ یَفۡرَحُونَ بِمَاۤ أَتَوا۟ وَّیُحِبُّونَ أَن یُحۡمَدُوا۟ بِمَا لَمۡ یَفۡعَلُوا۟ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةࣲ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ)–[سورة آل عمران 188]– فبعث مروان بن الحكم فيها بوَّابَه رافع إلى ابن عباسٍ يقول له: «لئن كان كل امرئٍ منا فرح بما أوتي وأحبَّ أن يُحمدَ بما لم يفعل معذبًا لنُعَذَّبنَّ أجمعون، وذلك في حب الإنسان الثناء والمديح، وكانت الشعراء تستعطي الملوك في تقريظهم، وكانوا يقربون جمهرتهم إلى مجالسهم طلبًا فيما عندهم من حلاوة القول، وإن كل إنسان أخطأ ظن ذلك نهاية الكون، ومعيبَةً في فضله لهلك العالَمون.
كان يروعني أن يقال لي بيتك مكسور، أو أخطأت في كذا إعرابًا، أو تلك كلمةٌ لم يُوردها المُعجم، أو أن أكتشفَ أنما هناك ما لمَّا أعلمْه من علوم اللغة أو علوم تخصصي، وأقول متى الأوْجُ والاكتمال؟ وحتَّامَ السعي والتعلم؟ ثم عرفتُ قدريَ فاستراح جنبي، وقلتُ لانعكاسي في المرايا: إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني الله، وإنما أنا حَدَث لا باعًا لي ولا ذراعًا، فكيف بالصبي أن يُدركَ معرفة أبيه؟ أو يحيط الرجل بحكمة جده؟ وليس لهذا عمرَ ذاك، وإن المعرفة باستطالة الحياة وطول التجريب، وإن كان الكبير الأشيَبُ يغلط، فما العيبُ في أن يُخطئَ الشاب الحديث؟ وإن كان المُفَوَّهُ العليم ذو الجاه في كذا والمَنزلِ الرفيع فيه ناقصًا يعوزُهُ العلمُ بعدُ، فما ضرِّي أنا ابن البارحةِ في أن يعلمَ «علمُهُ ناقص» أو يُقالَ «غيرُ مُلِمٍّ»، وإن كان أهل الاختصاص يستزيدون، وأنَّ فوق كلِّ ذي علمٍ عليم، وأنَّه ما أوتيتم مم العلم إلا قليلًا؛ فما العار في أن أستزيد من ذلك وأنا أجتهد فيه وليس مطلوبًا مني ولا مفروضًا عليَّ، وللمجتهد أجران.
لُبُّ المقال
فاعلمْ أنما العلمُ واسع، وأن الآفاق ضائقة لا تَسَع ولا تتسع، فإن كل عليم جاهل إلا مما علمه الله، وأن كل مختص ناقصٌ فيه حتى آخر أنفاسه، وأنك ما استزدت علمًا إلا عرفت جهلك، ولا يجب أن يكون خطؤك عن حمق أو جهالة أو صَغَار، أو أن يكون ناصحك أفضلَ منك؛ فهو الآخر له زَلَّاتُه، فإن نُصِحْتَ فاحمَدْ، وإن انتُقِدتَ فتعلَّمْ، وإن رأيتَ من أهل الشيء فالزمْ، وثقْ أنك مخلوق لتنقُصَ فتكتملَ، وتُكَمِّلَ، وإنْ ذلك لهو الإعمار وغرض الخلافة الآدمية في الأرض، وإنَّك مخلوقٌ لتُخطئَ فتتعلم، وكل ابن آدم خطاء، ولكن خير الخطائين التوابون؛ فلا يشعرنك خطؤك بالعار، ولا يغلبنَّ عليه الاختيال فتزدادَ جهلًا وخطأ، وتتحول عن طريق الكمال، وثقْ أيضا أنما الكمال لله وحده، وأنك مهما كمُلتَ فأنت في نقصان؛ لأنك يا عزيزي.. إنسان!
-------
مصادر:
سير أعلام النبلاء (376/1) للإمام الذهبي
تفسير القرطبي
تفسير ابن كثير (1/ 468)
فتح الباري شرح صحيح البخاري- كتاب تفسير القرآن- سورة آل عمران
صحيح الترمذي- حديث 3014
حِليةُ الأولياء وطبقات الأصفياء- إبراهيم بن أدهم- حديث 11356









تعليقات