سحر مصر
- أحمد القاضي
- 12 أغسطس 2020
- 5 دقائق قراءة

هذا الكتاب يُعالجُ نظرة مستشرقٍ إيطالي لمصر، التي عاش في أحضانها طفولته، وتربى بها صغيرًا، ثم يهجرها إلى موطن جذوره؛ فيعود إليها بنظرة المستشرقِ التي تريد لترسمَ للشرق صورة وتثبِّتها تعين -هذه الصورة- على فهم أيديولوجياته جيدًا؛ بغرض السيطرة عليه وإعادة أدلجته.
قد عاش فيليبو تومازو فترة ما بين صراع القوى الاستعمارية على الشرق، والفكر الإمبريالي، وكان في ذاك الأوان صعود التيارين النازي والفاشي في أوروبا؛ فتأثر بنزعته العرقية، وجعل ينظر إلى مصر –كأمثال جل من سبقه في العيش بها ثم هجرتها– على أنها تلك المستعمرة التي يغزوها ثلة من الأجانب النبلاء، ليقْدُم سكانها الأصليون على خدمتهم والانبهار بفضلهم، كأنهم خدم فاقدون لحس الانتماء أو القومية لهذه الأرض، وهذا واقع أليم: فمتى كان المصريون -قبل الجمهورية- يشعرون بأنهم مواطنون حقيقيون؟ وأن تلك أرضهم؟ وهذي قوميتهم؟ وأنهم مالكون زمامهم وحق تقرير المصير؟ لقد كانت أرض مصرَ على مر التاريخ القديم والحديث مهبًا لريح الغزاة، حتى كان الأتراك في دولة أحفاد محمد علي يعاملون المصريين على أنهم من الدرجة الثانية -بل الثالثة بعد جاليات الأجانب- وكانوا يحصرونهم في طبقة الفلاحين، التي لم يكن يحق لها أن ترنوَ تطوُّرًا في كينونتها طبقًا للطبقية الأرستقراطية الدنيئة.
وتومَّازو كان قد استُقدِمت أسرته في عهد الخديوي إسماعيل ليعملوا مستشارين في الشركات الأجنبية، ولما جاوز العشرين سافر ليدرس في السربون بفرنسا، ثم في جامعة باڤيا الإيطالية؛ حيث تخرج في القانون عام ١٨٩٩م، لكنه لم ينسَ مصر التي عاش في إسكندريتها عقدين من عمره، محتفظا مع ذلك بطابعه الغربي، وأصالته العرقية، وربما أعانه على ذلك اشداد شوكة الجالية الإيطالية واليونانية كذلك في عصر إسماعيل، كما في عصر الملك فؤادٍ، الذي عاصره في الشباب أيضًا.
وهو يرسم لنا في هذا الكتاب ثنتي وعشرين لوحة في خمسين صفحة، لا تتجاوز إحداها الصفحة أو الزوج، عدا واحدة بلغت عشرة صفحات؛ وهي لوحة تفصيلية، بل شريط سينمائي أشخاصه خالصوا المصرية، لكن عدسته وإخراجه أوروبِيَّا المذاق، إمبرياليَّا النزعة، تحشوانه بالدراما، ووتُنهيانه بالتراجيديا الدموية، التي تشبه توجهات أوروبا الحديثة آنذاك.
وهذا الكتاب ككل يمكننا أن نطالعه في سياقات متعددة: أحدها هو الأدب المقارن؛ لما فيه من رسم لصورة أمة في أدب أمة، أو أديب آخرَين، ويعبر عن ذلك بلوحاته التي استخدم فيها تعابير مثل (البحرية الإنجليزية؛ الهرم؛ برج الحمام؛ القطن؛ الدراويش؛ الملك فؤاد...إلخ).
وأحد هذه السياقات أيضا استشراقي؛ لأنه إنما ينظر بعين الأجنبي المطالع للشرق، وهو ليس أيُّ مطالع، بل هو كاتب وسياسي مؤثر، وكان قضى من عمره أحدثه في مصر، فعاد بعد غياب ليرسم صورة عن مصر، وكأنها مصر أخرى غير تلك التي عاش بها، أو عرفناها نحن؛ كأنما هو يريد أن يرسخ لصورة معينة في الأذهان، وأنا إن كنت أبالغ في ذلك؛ فلأني أعرف توجهاته الدموية، وميوله المناصرة للفاشية التوسعية؛ فهذا هو تومَّازو مؤسس تيار المستقبلية Futurismo الذي أنشأ قائمة مبادئه على أساس بنود تتمثل فيها وتتمثل هي في العدائية والوحشية، والدعوة إلى الحرب والتخريب، والإهلاك، وإنفاذ قوى الشباب جميعها في الغضب والعنف، والضراوة.. كل تلك الفكر جميعا في عريضة سماها «المانيفستو» أو الإعلان، نشرها في جريدة فرنسية عام ١٩٠٩م، ثم دعا إليها طبقة عريضة من المثقفين والأدباء في عصره كان منهم ألدو بوليتسيني، الذي أباه -متأخِرًا- بعدما انخرط فيه، ورآه ماحيا لإنسانيته، جاعلًا إياه إما حيوانًا يفترسُ، أو آلة تُسارع تَسارُعَ الزمن؛ ولأنه رفض الحرب، واعتزل الفاشية الدموية قبل أن يخسر حياته كما خسرها معظم المستقبليين.
وهذه المدرسة في بعض تعاليمها الشعرية أو الأدبية تشبه المدرسة الواقعية التي انتشرت في الأدب العربي في القرن العشرين أيضًا، حيث تذود بالأدب عن الخيال، والعيش في الوهم، وتدعو إلى مطالعة الواقع، وعيش الآلام بلا هروب، بل مواجهته والتعرض له دون إنكار، واختبار التجارب كلها بوعي حاضر.
هذا المارينتي دعا إلى إحراق المتاحف والمكتبات؛ عادًّا لها رمزا للماضي، ومن بقاياه، وتذكاراته التي تعرقل الإنسان في مسيرته المستقبلية؛ وذاك لأن الوقت يسرق، والعصر الحديث تأخذه السرعة، وتكسوه الآلية، التي لا تعطي فرصةً للنظر إلى الوراء؛ فمن يقفْ يُدْهَس، ومن يتقاعسْ يمُت.. ونحو كل تلك الأفكار التي أنقل لكم منها مترجمًا عن أصله الإيطالي:
«إنما نريد أن نُعظِمَ حب الخطر، واعتياد الطاقة، والبأس.١ الشجاعة، والجراءة، والتمرد سيبِتْنَ عناصرَ أصيلةً لقصيدتنا.٢ أما وقد كان الأدب –إلى وقتنا هذا– يمجد الجمود الفكري، والخمول، والعيش في الأصداف؛ فنحن -المستقبليين- نريد إكبارَ العدائية، والأرقِ المُعَنِّي، والخطى الحثيث، والقفزة المميتة –يعني الاندفاع المُهلك–.. ونشيد بالصفعاتِ، واللكمات أيضًا.٣ أننا نؤكد أن روعة العالم تغْنى بلونٍ جديد من الجمال؛ هو جمال السرعة: فكأنه سيارة سبَق بمحركاتها المزدانة بأنابيبَ ضِخامٍ تشبه الأفاعي التي تنفث من فيها التفجيرات .. سيارة صارخة –مدويةٌ صيحاتها– تلوح كما لو أنها تندفع على رشاش آلي؛ فتُرى أجملَ من تمثال النصر المجنح «ساموثريس».٤ (...) لا بد للشاعر أن يتيهَ بكل حماسةٍ وإسهاب؛ سعيًا لزيادة الحماسة تجاه العناصر الأصيلة.٦ لا توجد زهوةٌ في غير المعركة، ولا يوجد عمل –لا يحمل في طياته ملامح العدوان– يمكن أن يعد البتةَ عظيمًا، بل يجب أن يُصور الشعر بوصفه اعتداء على قوات مجهولة، حتى يقودهم إلى الانحناء -تبجيلا واستسلاما- للإنسان.٧ نحن اليوم على رأس العصور كلها؛ فأنَّىٰ ينبغي لنا أن ننظر وراء ظهورنا إذا كانت إرادتنا تحطيم أبواب المستحيل الغامضة؟ الزمان والمكان قَضَيَا بالأمس نحبهما، ونحن نعيش -اليوم- في اللا قيود (في حرية وإرادة وقدرة مطلقة)؛ بما أننا ابتدعنا بالفعل السرعة الخالدة التي لا تغيب عن حيثٍ أبدًا.٨ نريد تبجيل الحرب، والعسكرية، والوطنية، وإجلال الإشارات التدميرية التي للمتحررين، وتلك الأفكار التي يموت المرء في سبيلها؛ وأن نزدريَ بالمرأة كذلك نرى.٩ نريد تحطيم المتاحف، والمكتبات، وجميع المعاهد من مختلف الأصناف وكل لون، ونحارب مذاهب الأخلاقية، والنسوية، وكل صورة للجبن انتهازية أو نفعية.١٠ ونحْمَدَ الحشود الغاضبة، التي يثيرها العمل، أو تدفعها اللذة، أو يحركها الشغب؛ ونتغنى بمجد بحارٍ من الثورات متعددة الألوان، ومتلونة الوقْعِ في الأصداء في كل العواصم المُحْدَثة… ١١»
ويختتم هذه العريضة الطويلة –بعد إطناب وإسهاب يُعَقِّبُ به على تلك المبادئ– بقوله ارفعوا رؤوسكم!
أما السياق الثالث الذي نطالع من خلاله كتاب سحر مصر؛ فهو وفاق أو تشابه حضارات البحر المتوسط التي جمعت الإيطالي باليوناني بالمصري؛ حيث كانت تلك الجاليات تحيا، وتتعايش مع المصريين، وتنسجم معهم حتى نهاية زمن المملكة المصرية وقيام الثورة المباركة؛ والرابع والخامس هما صراع الحضارات، وحوار الثقافات، وهذا نراه في صورة الغزاة المحتلين، والجاليات الذين يُخدِّمون أصحاب البلاد، ويتسيدون عليهم، ويسوسونهم، وينظرون إليهم بازدراء: وهو يحكي قصة «البحث عن السمان والنساء العربيات مع قواد عربي» التي تتحدث عن رحلة صيد يقوم بها خمسةُ إنجليزٍ، وثلاثةٌ يونانيون، وإيطاليان يعزم كل واحد منهم أن يصطاد مئة سمانة؛ فيقودهم محمد إلى مكان الصيد في القرية بقرب كوخ خشبي رميم، ويخدِّمُ عليهم الصبية -الذين وصفهم مارينتي بـ شبه عراه؛ ليدل على فقرهم، أو تشردهم ربما –وهذا من ضروب صراع حضارات– ويقدمون لهم آنية التين الطازج؛ أما محمدٌ –الذي يعمل لدى الضابط أركان حرب الإنجليزي– فيأتي بسمانٍ زائفٍ قلد هو صوته؛ لينهي رحلة صيد طالت من السادسة حتى التاسعة صباحًا.
وبينما هم كذلك تلفت نظره الحسناء فاطمة، وهي زوجةٌ لصيادٍ ماهر اسمه مصطفى.. يصورها الكاتب في صورة الغانية البغي، التي تشتغل بالدعارة.. وفي الحقيقة ليست هي وحدها التي تطل علينا بهذه الصورة، بل إنه في آخر القصة يفجر لنا مفاجأة: يتفق مع محمدٍ القواد أن يدبر له موعدًا مع أم فاطمة، التي توافق على شرط ألا يكتشف مصطفى الأمرَ، وبينما هما يأتيانها، إذ بمحمدٍ يدندن فوق السطح يراقب موعد عَودِ مصطفى، ثم تُسمَعُ طلقاتٌ وصياح النسوة «مصطفى قتل محمد.. مصطفى قتل محمد»!
المفاجأة بالنسبة إلي لم تكن البتة في الخاتمة الدموية المأساوية، بل كان في تعليق مارينتي نفسه، الذي يقول: ”قتله مصطفى؛ لأنه لم يدفع له مقابل آخر مضاجعة فَجَرت بها فاطمة“.. علامة تعجب، وأترك لك التحليل غيرَ غافلٍ عن أن تلك الحقبة التي كان يعيش بها مارينتي لم يكن الفكر الأوروبي فيها ليتباين كثيرًا عن الشرقي؛ فالبغاء بغاء، والسكر سكر، والزنى زنى، والزواج زواج.
Comments